الأقاليم .. بين أحكام الدستور ونزعة الهرب الى أمام / لثلاثاء, 30 حزيران/يونيو 2015

مع كل لحظة استعصاء، وتصاعد لحدة التوتر بين الاطراف المتصارعة، واشتداد وتعمق الازمة التي تلف الوطن بسبب نهج المحاصصة الطائفية-الاثنية، وعقم نمط التفكير المتحكم، واستفحال الانانية السياسية، وغياب الواقعية والبحث الجاد المسؤول عن الحلول المرنة المعبرة عن المصالح المشتركة، التي يمكن لها ان تضع البلد على سكة الاستقرار والبناء والتجديد الديمقراطي، تطرح، بمسميات مختلفة، واشكال متنوعة، وهربا من استحقاقات من شأنها حلحلة الازمة وفتح ابواب واسعة لمعالجة خلفياتها ونتائجها، تطرح قضية تشكيل الاقاليم بما يحملها القائلون بها من معان وتفسيرات حد الوصول بها إلى تشكيل كانتونات مستقلة، او كيانات منفصلة فعليا بعضها عن بعض، وهو ما يوحي بأن القائمين على هذه المشاريع لا يأبهون بنتائج ما يقدمون عليه، ولا بإمكانيات تحقيقها، ولا بالتداعيات والتعقيدات التي يمكن ان تنتج عنها .
وما يزيد الطين بلة ويضاعف من تعقيد خلط الاوراق هو المشاريع والخطط والدسائس التي تعد وتجهز خارج الحدود في المطابخ السياسية والاستخبارية و"مراكز البحوث الاكاديمية" التي لا ترى حلا للمشكلة العراقية الا بإعادة رسم خارطة العراق الجيو سياسية واعادة تشكيله على اساس كيانات طائفية واثنية، إن تحققت فإنها لا تفضي الا الى اضعافه وتشظيه وتمزيق وحدته وزرع روح العداء والخصام الدائم بين ابنائه تحقيقا لطروحات الطامعين بالهيمنة على مقدراته والتحكم بمساراته وتوجهاته من قبل القوى الاجنبية، الدولية والاقليمية، وامتداداتها العراقية، خدمة لمصالح تلك القوى وامنها وستراتيجيتها المعادية لمصالح الشعوب، او في الاقل تحويل الاراضي العراقية الى ساحة لتصفية صراع المصالح بين تلك الدول المتخاصمة فكريا وسياسيا .
ولتغطية النيات السيئة وحرف الحقائق والتعتيم على الاهداف الحقيقية، يجري التعكز على الدستور وبعض مواده وأحكامه الخاصة بهذا الشأن والاستشهاد الشكلي بها لتسويغ تلك المشاريع التقسيمية من جانب، ومن جانب آخر تشويه تلك المواد والاحكام الدستورية .
وكما هو معلوم فإن الدستور ذهب الى بناء عراق موحد على اساس الحرية والديمقراطية ومؤسساتها والاستقرار والبناء واحترام ارادة الشعب في اختيار شكل الادارة السياسية، وليس بناء كيانات متنافرة، متخاصمة ومتصارعة، وعلاقاتها مبنية على الشك وعدم الثقة وتجاهل المصالح المشتركة .
ان اللامركزية وصيغتها المتقدمة الاقاليم في عراق اتحادي (فدرالي) وكتجسيد للديمقراطية على الصعيد الاداري، هي عملية تطور تصاعدية تتراكم معطياتها كضرورة لترسيخ المؤسسات وتطبيق القانون، وهي ترتبط بتوفر الاجواء الطبيعية البناءة والمقدمات الضرورية لتطوير صيغة الادارة الى مستوى ارقى وفقا للدستور وأحكامه .
ان تشكيل اقاليم على اساس طائفي وفي اجواء الاحتراب والتناحر والتسابق على المكاسب، والمساعي المحمومة لإعادة اقتسام الغنائم ومواقع السلطة والنفوذ والثروة في اطار منهج المحاصصة، هو اساس للفوضى . وان هذا المنحى لا يمكن ان يؤدي في ظروفنا الملموسة الى الاستقرار والوئام، بل الى المزيد من الخصام والتنافر.
فتشكيل الاقاليم على وفق هذه الطريقة لا يتوقع منه اي مردود ايجابي، بل سيثير العديد من المشاكل والتداعيات .
فستواجه قضية ترسيم حدود الاقليم عراقيل عويصة، وهي قضية شائكة اساسا، اثارت وتثير صراعات كثيرة (المناطق المتنازع عليها ..الخ) وصلت في بعض الاحيان، وفي ظروف افضل من ظروفنا الحالية بكثير، الى حد الصدام المسلح . فهل الاجواء الحالية انسب ؟! . ويتوجب التاكيد على أن ما يفرض بالقوة وخارج القانون والشرعية الدستورية لا يمكن ضمان استمراره وثباته .
ومن جانب آخر هل ستؤمّن تلك الصيغة لتشكيل الاقاليم المقحمة خارج السياق الطبيعي استقرارا داخل الاقليم نفسه، بين ادارات محافظاته حول الحدود والحقوق وغيرهما ؟!.وهل ستضمن استقرار الاوضاع الداخلية، سيما نحن نلمس لمس اليد الصراعات التي يمكن ان تتحول الى صراعات دموية بين قوى الاقاليم المتنفذة نفسها على السلطة والثروة والزعامة، وهي المتورطة اصلا في صراع المصالح وتكريس نهج المحاصصة ؟.
وفي هذا السياق تبرز قضية موقف العالم الخارجي، فما الذي يضمن عدم التدخل الاجنبي ؛ الدولي او الاقليمي المجاور في شأن تشكيل الاقاليم، وأن توظف الحالة الناتجة عن التعصب الطائفي الاثني لما يخدم مخططات هذه الدول في رسم مستقبل العراق السياسي وانتهاك سيادته الوطنية واستقلاله من خلال استغلال حالة التفكك، وحاجة الاقاليم الى الحماية، وهي تقام بالطريقة الخاطئة ويتزعمها من استمرأ الاتكاء على قوى الخارج وتحول بعضها الى امتداد لها ؟ .
كل التساؤلات والمحاذير المذكورة آنفاً تجعل من عملية الهرب الى أمام بتشكيل اقاليم على أسس طائفية، كارثة على العراق ووحدته، وعلى شعبه وامنه ومسيرته نحو الديمقراطية .ويفتح الباب على صراعات دموية جديدة وحروب أهلية لا قرار لها .
ان بناء الاقاليم الطبيعي على أسس أحكام الدستور ووفقا لإرادة الشعب الحر، وفي ظروف سلمية، واحترام مبدأ المواطنة وحقوق الانسان، هو تعزيز للديمقراطية وترسيخ لمؤسساتها وتمتين للوحدة الوطنية المبنية على اساس الاختيار الحر والقناعة .
ان معالجة الازمة العميقة التي يعيشها وطننا وشعبنا تتطلب نمط تفكير جديداً واقعياً ينطلق من ضرورة تكريس كل الجهود لتعزيز الوحدة الوطنية من اجل دحر الارهاب اولا، وعبر تعزيز قدرات بلدنا العسكرية والامنية التي لا يمكن عزلها بحال عن ضرورة اقامة علاقات تعاون طبيعية بين القوى السياسية اساسها انجاز المصالحة الوطنية واحترام روح المواطنة ووحدة الوطن واستقلاله، والسير بالعملية السياسية نحو ضفاف الديمقراطية الحقيقية، وان يتم ذلك بالتوازي مع الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي . فهو ما يؤمن لبلدنا عودة الاوضاع الطبيعية وتجديد عملية البناء والإعمار وبعث المؤسسات وحكم القانون وضمان رفاء شعبنا في عراق مدني ديمقراطي فيدرالي موحد، وليس بالبحث عن المجهول والتشبث بمشاريع عقيمة تقود البلد الى ما لا تحمد عقباه.