2015 في شأن قرار مجلس النواب منع استخدام صلاحياته من قبل السلطات الأخرى ... المغزى والدلالة/ الأربعاء, 04 تشرين2/نوفمبر

صوّت مجلس النواب منذ ايام "بالاجماع" على قرار ينفي فيه تفويضه اياً من اختصاصاته التشريعية لأي من السلطات الأخرى ، والمقصود هنا اساسا السلطة التنفيذية ورئيس الوزراء. وجاء ذلك بعد مضي قرابة ثلاثة أشهر على موافقته "بالاجماع" على ورقتي الاصلاح الحكومية والبرلمانية. واكد المجلس في قراره انه ينبغي على كل سلطة من سلطات الدولة الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات الذي ينص عليه الدستور.
يستشف من القرار ضمنا ان احدى السلطات، والمقصود السلطة التنفيذية ورئيس الوزراء ، قد قامت بخرق هذا المبدأ الدستوري وتجاوزت على صلاحيات مجلس النواب وتصرفت بموجبها من دون تفويض صريح من الأخير.
ولعل من المتعذر فهم الأسباب التي حدت بالمجلس ان يعيد تأكيد مبدأ دستوري لا خلاف عليه في هذا الوقت، وادراك مغزى ذلك ودلالته السياسية، من دون ربطه بمجريات وتداعيات تنفيذ حزمة الاصلاحات التي طرحها رئيس الوزراء واعتمدها مجلس النواب باجماع، اعُتبر بمثابة تفويض للحكومة للشروع في تنفيذها بالاجماع.
وفي اطار حزم الاصلاح المعلنة ، اتخذ رئيس الوزراء عدة قرارات ، اهمها الغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وتقليص الحمايات، والغاء ودمج بعض الوزارات، والغاء او خفض الامتيازات الكبيرة الممنوحة للرئاسات وللعاملين فيها، كذلك اجراء تغييرات في مواقع كبار الموظفين من اصحاب الدرجات الخاصة وبعض الاجراءات الادارية الترشيقية الأخرى، اضافة الى تفعيل الاجراءات التنفيذية لبعض ملفات الفساد الكبرى القديمة بحق مسؤولين كبار سابقين، ثم اصدار سلم جديد للرواتب ينطوي على تخفيض لرواتب الدرجات العليا وللمخصصات الا?تثنائية الممنوحة لمنتسبي بعض الوزارات كالتعليم العالي والكهرباء وغيرهما مقابل منح زيادات لموظفي الدرجات الدنيا. وقد أثار ذلك ردود فعل غاضبة من جانب شرائح الموظفين العاملين في الوزارات المشمولة بالتخفيض في المخصصات.
فهل المقصود ان رئيس الوزراء تجاوز صلاحياته في اتخاذ هذه الاجراءات ؟ وإذا كان ذلك حدث فعلا، فلماذا الانتظار اكثر من شهرين والسكوت على خرق مبدأ دستوري وعدم اصدار مجلس النواب تنبيها بهذا الخصوص؟
وهل حقا تعتبر القرارت السالفة الذكر تجاوزا على صلاحيات مجلس النواب شكلا ومضمونا ؟
ان جميع القرارت سالفة الذكر يرد بشأنها نص صريح في حزمة الاصلاحات التي صوّت عليها مجلس النواب بالاجماع في 11 آب 2015، ويمكن العودة في هذا الشأن إلى محاضر الجلسة والبيان الصادر عن الدائرة الاعلامية لمجلس النواب. وإذا كان ثمة مأخذ يسجل على رئيس الوزراء والحكومة فهو تأخرهما في تقديم مشاريع القوانين التي تؤطر وتكيف هذه القرارت، وهو ما كان بمستطاع المجلس ان يقدم العون والمشورة للحكومة في تحقيقه ضماناً لحسن التنفيذ وسرعته. اما ان يجري التنويه بامكانية مراجعة هذه القرارات كما يستدل من حيثيات القرار وخلفياته لأن رئيس الوزراء لا يمتلك "تفويضا"، فهذه مغالطة وتراجع عن مواقف المجلس السابقة. وهكذا فهمت اوساط الداعين للاصلاح والمناصرين له الرسالة من وراء اصدار هذا القرار، ويبدو ان رئاسة الوزراء ايضا فسرت القرار بانه تقييد لعملية الاصلاح ومحاولة لكبحها والارتداد عنها، كما جاء في البيان الذي اصدرته يوم امس الاول.
ولم تأت هذه التقديرات من دون سند او مبرر، فتوقيت القرار يقترن بما تشهده الساحة السياسية من نشاط مكثف من قبل القوى والجماعات المناهضة للاصلاح والمتضررة منه، لتنسيق وتوحيد مواقفها وجهودها لمواجهة ما يتهدد مصالحها الأنانية وغير المشروعة المشتركة، وذلك من أجل تعطيل عملية الاصلاح والاجهاز عليها، متعدية انقساماتها الدينية والمذهبية والقومية وخلافاتها السياسية التي غالبا ما تقف حائلا دون اتخاذ مواقف موحدة في القضايا ذات الصلة بالمصلحة الوطنية العليا.
ويأتي اجماع مجلس النواب على تمرير هذا القرار، متوافقا مع الانحسار النسبي في زخم التظاهرات، وظهور الآثار السلبية للادارة غير الموفقة لملف الاصلاحات ، والتردد والتلكؤ الذي شاب عمل رئيس الوزراء، في تنفيذها وتعميقها واستكمالها ضمن رؤية وتصور متكاملين وواضحين. وقد تجسد سوء ادارة عملية الاصلاح في عدم اعتماد الأولويات السليمة في الاصلاحات والتي تحظى باوسع قدر من التأييد الشعبي والمجتمعي. كما برز في اجراءات الحكومة في اعتماد سلم رواتب جديد اثار حفيظة شرائح واسعة من الفئات الوسطى من الموظفين المهنيين والأكاديميين الذين انخفضت رواتبهم مقابل زيادات صغيرة لفئات اوسع من الموظفين، لم تكن كافية لاثارة حماسهم لصالح السلم الجديد.
ونتيجة لعدم التشاور المسبق مع ممثلين للجهات المعنية بالاجراء، ومع ذوي الخبرة والاختصاص من خارج الدائرة الضيقة التي صنعت واتخذت القرار، وشبه غياب للتواصل الاعلامي لشرح الاجراء والسلم وتوضيح مضامينه واهدافه وتداعياته والاسباب المبررة له، تحولت هذه الخطوة التي كان هدفها تحقيق عدالة أكبر في سلم الرواتب وتقليص الفوارق في الدخل ورفع مستوى دخل الشرائح الأضعف، إلى مشكلة وازمة عطلت الكثير من دوائر الدولة ودفعت الآلاف من منتسبي الوزارات ، وبشكل خاص من اساتذة وموظفي التعليم العالي، إلى الاحتجاج والتظاهر، وخلقت حالة استياء واسعة في صفوف الموظفين.
لقد وفرت هذه الأخطاء الفرصة والأجواء لمناهضي الاصلاح الذين استفاقوا من الصدمة الأولى لترتيب اوضاعهم والتهيؤ لشن هجوم مضاد والانقضاض على عملية الاصلاح برمتها تحت مختلف العناوين والمبررات.
لكن من الواجب تنبيه المراهنين على تراجع الضغط الشعبي وانحسار التظاهرات إلى أنهم يخطئون كثيرا إذا ما تصوروا أن اوساط شعبنا، المكتوية بجرائم الارهاب والتي تقاسي من غياب الخدمات، وآخرها ما جرته عليها فيضانات الأمطار من عذاب وخراب وضحايا بريئة، تضاف الى العبث المنفلت للفاسدين والمفسدين بالأموال العامة والمسؤوليات العامة المناطة بهم في دوائر الدولة، .. اذا ما تصوروا انهم سينكفئون ويستكينون ويرضون بما يخطط له الضالعون في الفساد، والحاصدون لأمتيازات ومنافع نظام المحاصصة الطائفية والأثنية والقابضون على سلطاته. لاسيما وانهم امضوا ثلاثة أشهر يتظاهرون ويحتجون سلمياً، بصورة اثارت اعجاب العالم وحظيت بمباركة ودعم المرجعيات الدينية العليا.
فازمات البلاد العميقة والشاملة التي باتت تشمل مختلف مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الى جانب تحديات الحرب ضد الارهاب، لم تعد تسمح ببقاء الأوضاع على حالها، بل انها تجعل من اصلاح النظام السياسي، بسلطاته المختلفة، ومن الضرب بشدة على رأس الفساد واجتثاث مصادر انتاجه، ضرورة آنية غير قابلة للتأجيل إلا مقابل معاناة متفاقمة وأزمات اكثر تفجرا.
وإذا كان مجلس النواب جادا في تأييده للإصلاح، فعليه أن يثبت ذلك لشعبنا الذي لم يعد لديه الكثير من الثقة بالأقوال والوعود، لذلك يطالب بالأفعال الملموسة. ويتحقق ذلك اولاً بتنفيذ حزمة الاصلاحات التي اقرها مجلس النواب اوائل شهر آب الماضي، والاسراع في اطلاق الحزمة الثانية منها.
ان وعورة طريق الاصلاح، وما تمتلكه القوى المناهضة للإصلاح وحيتان الفساد من قوة ونفوذ ودهاء سياسي لمقاومة اي اجراء اصلاحي، تؤكد ضرورة ان تجتمع قوى الاصلاح وتتضافر جهودها، وأن تكون ساحات التظاهر وميادين الاحتجاج المختلفة مفتوحة لكل ابناء شعبنا الداعمين للإصلاح والتغيير، وان يكونوا على بينة من إن اي تراخ وخمول وتراجع عن الانغمار في مختلف اشكال الضغط الشعبي، ستستثمره القوى المعادية للاصلاح، المتأهبة لتكريس مصالحها وامتيازاتها والنظام الحامي لها، وتفتيت وضرب اي مسعى يحمل افقا اصلاحيا.