انقلاب 8 شباط الاسود وعِبَرُه المعمّدة بالدم / 07 شباط/فبراير 2015

كانت اللحظة التي أطلق فيها الرصاص على صدر الشهيد جلال الأوقاتي ، عند خروجه من بيته في كرادة مريم ببغداد صبيحة يوم 8 شباط الأسود 1963، هي لحظة بدء الانقلاب على ثورة 14 تموز المجيدة وانجازاتها الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبها باشر الانقلابيون وأد التطور الطبيعي في اتجاه بناء الدولة الحديثة المنشودة ، التي تتسع لجميع المواطنين على اختلاف قومياتهم واديانهم واتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، رغم ما رافق التجربة من عيوب ونواقص وتلكؤ، شأن أي محاولة جديدة تسعى الى إشراك المواطن في الحياة السياسية وفتح الافاق للتطور اللاحق.
لقد سجل الانقلاب المشؤوم بداية تاريخ طويل من الانتهاكات لحقوق الإنسان والهدر لكرامة المواطن.
بدأ حكم الردة بسفك الدم دون حساب، ودشن القتلة "رسالتهم الخالدة" بالاغتيال الشنيع لقادة الثورة الاماجد: الزعيم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد في مبنى الإذاعة والتلفزيون، في مشهد رهيب مروع ومن دون محاكمة! وفي مواجهتهم ورصاصهم الجبان شمخ الشهداء برباطة جأش قل مثيلها، وشجاعة تليق بالوطنيين الغيورين على شعبهم ووطنهم.
كان مشهد الدم المسفوح والقتل بالجملة، السمة التي لازمت حكم الانقلابين وميزته. ومن ينسى عار البيان رقم 13 الذي ظل يلاحقهم، وقد تلطخت أياديهم بدماء المئات من الوطنيين والشخصيات الديمقراطية والتقدمية، ومن ضمنهم قادة الحزب الشيوعي العراقي واعضاؤه ومناصروه، يتقدمهم الرفيق حسين احمد الرضي (سلام عادل) سكرتير الحزب، الذي استخدموا لقهره ابشع صنوف التعذيب، فأرعبهم بصموده وهزمهم بقوة إرادته وعمق ايمانه بمبادئه وثقته غير المحدودة بشعبه.
وبلغت جرائم الانقلابيين حدا أصبحت فيه عمليات التعذيب والاغتصاب والقتل مشاهد يومية، يمارسها مسلحو "الحرس القومي" في مقراتهم وفي المعتقلات الكثيرة، بحق كل وطني مخلص وكل من يشتبهون في ولائه لمشروعهم الهمجي والعنصري البغيض. ويكفي ان نعود الى كتاب "المنحرفون" الصادر عن سلطة انقلاب تشرين 1963 التي اطاحت بحكم العفالقة المجرمين وحرسهم القومي، والذي نقل عن الضابط والوزير نعمان ماهر قوله آنذاك: "ان اليوم الذي شهد ولادة الحرس القومي ومكتب التحقيق الخاص لن يذكره التاريخ إلا بشعور من الخجل والعار".
لقد لعب الانقلابيون على وتر العنصرية البغيض، وانفردوا بالسلطة واستحوذوا على مقدرات البلاد، وحكموا بالقبضة الحديدية استبدادا وعسفا، وأسسوا لحكم الفكر الواحد واللون الواحد - ولاحقا الحزب الواحد، وانتهجوا طريق التمييز الطائفي، الذي ترك في ما بعد آثارا وخيمة على نسيج المجتمع العراقي،حتى بات اليوم يهدد الوحدة الوطنية.
ودشن الانقلابيون نهج تشويه مفهوم الحكم الجمهوري، الذي تطلع إليه العراقيون طويلا وقدموا التضحيات من اجله، واستقبلوه يوم 14 تموز 1958 بمشاركة سياسية واسعة وتأييد شعبي غير مسبوق. وذهب الانقلابيون ابعد بسعيهم الى اغتيال حماس الجماهير المتصاعد وتأييدها الحكم الجديد في البلاد. وكانوا في ذلك - وقد اعترف بعضهم لاحقا كما هو معلوم بكونهم جاءوا بقطار أمريكي كانوا منصرفين الى ضمان مصالح القوى الاجنبية الطامعة في خيرات العراق وثرواته وموقعه الاستراتيجي.
وكان من بين أهداف الانقلابيين القضاء على مشاركة المواطن في الحياة السياسية، وإبعاده عن المساهمة في صنع مستقبل بلده، وفرض إدارة الظهر لمبادئ المساواة والعدل وسلطة القانون وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين. كما استهدفوا تغييب مثال قادة ثورة تموز، الذين تميزوا بالتواضع والنزاهة والعفة والتسامح.
ولعل من بين أهم دروس الانقلاب الدامي، التي ينبغي على القوى الوطنية ان تستفيد منها، حقيقة ان التحول الديمقراطي المجرد لا يفضي بالضرورة الى بناء وترسيخ الديمقراطية ومؤسساتها، وان احتمال الارتداد يبقى قائما. وبالتالي فان تعزيز القناعة بالتحول الديمقراطي في ظرفنا الحالي مثلا، يحتاج جملة من الإجراءات التي بدونها يبقى القلق على مستقبل البلد قائما، ومنها تشريع القوانين الديمقراطية الضرورية التي من دون اعتمادها يبقى الحديث عن الديمقراطية مجرد شعار للاستهلاك اليومي، مثل القانون الديمقراطي للأحزاب الذي ينظم الحياة السياسية، ومثل تعديل قانون الانتخابات بما يضمن قيما متساوية للأصوات المتساوية، ويؤمّن الصوت الواحد للناخب الواحد، ويعزز الشفافية والثقة بالعملية الانتخابية. كذلك قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي، وقانون الضمان الاجتماعي، وقانون المحكمة الاتحادية. يضاف اليها ضمان فصل السلطات وتعاونها، واحترام القضاء وعدم تسييسه، واستكمال بناء مؤسسات الدولة الدستورية بضمنها انتخاب مجلس الاتحاد الذي يشكل الذراع الثاني للسلطة التشريعية، وانتهاج سياسات تؤمّن للمواطن متطلبات العيش الكريم، كالسكن، والطبابة، والتعليم، وغيرها.
وقبل هذا وذاك تبرز الحاجة الى تعزيز الارادة الوطنية عبر تأمين المشاركة السياسية الفاعلة وتوسيعها، وفسح المجال امام جميع المواطنين للاسهام فيها. فليس ممكنا القضاء على الارهاب من دون مشاركة وطنية واسعة. ومثله القضاء على الفساد ومحاربة المفسدين، اللذين يعدان ضمن المهمات العاجلة، اضافة الى بناء العلاقات السياسية المتوازنة مع محيط العراق الإقليمي والخارجي وفق قواعد الامن والسلم الدوليين وتبادل المصالح المشتركة، بما لا يفرط بمصالح الشعب العراقي ولا يمس السيادة الاستقلال الوطني.
واخيرا فان قوانين العدالة الانتقالية تبقى مثلومة ان لم يتم تعويض ضحايا الجور والاضطهاد والعنف. وينطبق هذا على عوائل الشهداء من ضحايا انقلاب 8 شباط المشؤوم، والسجناء السياسيين الذين يتوجب احتساب سني احتجازهم وتسريع معاملات تعويضهم .
المجد كل المجد لشهداء الوطن، والخزي لمطايا الإمبريالية من انقلابيي 8 شباط 1963 المشؤوم.