مجلس النواب والميزانية المبتغاة 06 / كانون2/يناير 2015

من المقرر ان تجري في جلسة هذا اليوم الأربعاء لمجلس النواب مناقشة مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2015، تمهيداً لعرضها للقراء الثانية. ويأتي ذلك في أجواء يغلب عليها طابع التوافق السياسي، ما يرجح تمرير المشروع والتصويت على الموازنة العامة قبل نهاية الشهر الجاري. وفي حال تحقق ذلك، سيكون المجلس قد نجح في أداء احدى اهم مهامه، وفي تجاوز الخلل الكبير الذي شاب عمله في الدورة السابقة، عندما فشل في تشريع قانون الموازنة لعام 2014.
ومعلوم ان مشروع قانون موازنة 2015 تأخرت إحالته من طرف الحكومة، التي لم تتوصل هي نفسها إلى اقراره إلا بعد مخاض وإثر مراجعة أكثر من مرة لتخمينات الايرادات المعتمدة فيه، نظرا الى الانخفاض المتواصل في اسعار النفط العالمية، لكي يتم في النهاية اعتماد سعر 60 دولارا للبرميل، وحجم صادرات قدره 3.3 مليون برميل يوميا.
ولم يكن ممكنا رفع الكمية المخمنة للنفط المصدر إلى هذا المستوى، والذي يمكن تجاوزه قبل نهاية العام حسب تصريحات كبار مسؤولي وزارة النفط، لولا الاتفاق الذي تم التوصل اليه الشهر الماضي بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، والذي شمل العديد من النقاط الخلافية التي كانت سببا في توتر العلاقة بينهما، وفي تعطيل الوصول إلى التوافقات الضرورية لسير العمل التشريعي والتنفيذي للدولة في مختلف مفاصلها، والى تكوين المناخات الايجابية في العلاقة بين القوى والأحزاب السياسية، وامتصاص جزء مهم من حالة الاحتقان في الحياة السياسية في البلاد، وانعكاساتها السلبية على أوضاع الناس.
ورغم ذلك فان الإيرادات المتوقعة في موازنة عام 2015 (وهي 99.8 تريليون دينار)، ستكون اقل بحوالي 30 بالمائة عن تخمين الايرادات في مشروع قانون موازنة 2014(139.6 تريليون دينار)، الذي اقره مجلس وزراء في الدورة السابقة ولم يجر تشريعه من قبل مجلس النواب. الا انه يعادل الايرادات النفطية الفعلية لعام 2014 والتي بلغت اكثر من 84 مليار دولار، علما أن المعدل اليومي للتصدير في عام 2014 بلغ 2.45 مليون برميل ومعدل سعر بيع 91.8 دولار للبرميل.
وعلى رغم اعتماد تخمين متفائل لسعر البرميل في موازنة 2015 وخفض بعض بنود الانفاق الترفي وغير الضروري، فان تخمينات إجمالي النفقات العامة في مشروع الموازنة تزيد على 125 تريليون دينار، ما يترتب عليه عجز تخطيطي يزيد على 25 تريليون دينار، أي 20.3 بالمائة من إجمالي الانفاق. الأمر الذي يستوجب توفير مصادر تمويل مناسبة لهذا العجز الكبير، الذي يتوقع ان يكون عجزا فعليا وليس حسابيا فقط، كما في الاعوام الماضية.
وتؤشر الملامح الأساسية لمشروع الموازنة العامة لعام 2015 شدة الأزمة المالية التي تواجهها البلاد، والخيارات المحدودة أمام معالجتها بسبب تعمق الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، وضآلة مساهمة القطاعات الانتاجية غير النفطية، وهزالة النظام الضريبي.
واليوم إذ يشرع مجلس النواب بمناقشة مشروع الموازنة، ينبغي أن لا يغيب عن الذهن ان اعداد الموازنة والاجراءات التقشفية التي تتضمنها لمواجهة الشحة في الايرادات، سواء على صعيد بنود الانفاق التي يجري ضغطها، أم مصادر الايراد التي يصار إلى تنميتها، ليست ذات طابع اقتصادي ومحاسبي مجرد وتقني بحت، وإنما تنطوي على ابعاد اجتماعية - سياسية. ولا بد أن يتم تحديد وكشف طبيعة وحجم الأعباء التي تمثلها الاجراءات التقشفية في الموازنة، وفرض هذه الأعباء على من يستطيعون تحملها.
وفي هذا السياق يجدر توضيح حقيقة أن الأزمة الحالية لا تنحصر اسبابها في استباحة داعش لثلث الاراضي العراقية، واستحواذه أو حجبه لمواردها، وما تسببت فيه جرائمه من تهجير لأكثر من مليوني شخص، وخراب مادي، ومن صدمة بسبب انخفاض أسعار النفط، وإنما ايضا في الفشل البيّن للسياسة المالية المتبعة على مدى سنوات، وفي سوء إدارة المال العام والتصرف به، إلى جانب الهدر في الانفاق، والفساد المالي والاداري المستشري والذي ادى إلى انفاق مئات المليارات على مشاريع فاشلة أو وهمية، وعلى إغراق دوائر ومؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، بعشرات آلاف المنتسبين "الفضائيين"، وتمتع الرئاسات واصحاب الدرجات الخاصة بامتيازات فائقة وبأنماط انفاق حكومي باذخة.
فلولا السياسات الخاطئة وسوء الادارة والفساد وغياب الرؤية التنموية طوال السنوات الماضية، لما وجدت البلاد نفسها أمام مسلسل الأزمات هذا، وقلة الخيارات البديلة المتاحة.
لذلك ليس مقبولا أن تتحمل الفئات والشرائح الاجتماعية الضعيفة والكادحة، واصحاب الدخل المحدود والفئات الوسطى، أعباء الازمة، سواء من خلال خفض المداخيل أم زيادة الضرائب المفروضة عليهم.
ورغم تصريحات المسؤولين بأن الاجراءات التقشفية لا تمس الفئات سالفة الذكر، فإن التأثير التراكمي لتأجيل صرف الزيادة في رواتب اصحاب الدرجة الخامسة وما فوق، وفرض ضريبة مبيعات بنسبة 20 بالمائة على كارتات تعبئة الهاتف النقال، وفرض رسوم على بعض المعاملات الادارية، وإلى حد ما فرض ضريبة 15 بالمائة على شراء السيارات، سيشكل عبئا اثقل على هذه الفئات، مما على الفئات الأعلى دخلا. فالضرائب غير المباشرة غير عادلة بطبيعتها، لذلك نحن ندعو إلى فرض ضريبة تصاعدية على ذوي الدخول العالية واصحاب العقارات وضريبة على الميراث.
ونحن نشدد على جعل الأزمة مناسبة للإسراع في اجراء المراجعات والاصلاحات الادارية والمالية، وتكثيف عملية مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال التي في ذمتهم، نحذر كذلك من اتخاذ هذه الأزمة مبررا للانقضاض على شركات ومؤسسات الدولة الانتاجية عبر الشروع بخصخصتها، عوضا عن التوجه بجد نحو تقديم الدعم لشركات وزارة الصناعة وللقطاعين الصناعي والزراعي، عبر تطبيق قانون التعرفة الكمركية، وتفعيل قرارات شراء منتجات الشركات العامة من قبل مؤسسات الدولة.
كذلك توجد في قطاع السياحة الدينية والآثارية، امكانية واقعية لتوفير ايرادات ذات شأن للموازنة العامة.
لقد خصصت في مشروع الموازنة نسبة 36 بالمائة للانفاق الاستثماري، وهي نسبة تزيد على مثيلاتها في الموازنات السابقة. وهذا جانب ايجابي، غير ان المطلوب ايضا أن يتم صرف هذه التخصيصات بصورة سليمة وفعالة على المشاريع، وفق اولويات تنموية. وللاسف لا يتوفر ما يضمن عدم تكرار ما حدث في السنوات السابقة، من تدن في مستوى الصرف والتنفيذ. فذلك يتطلب الارتقاء بعملية دراسة جدوى المشاريع ، والاشراف عليها، ومتابعة تنفيذها.
ولأجل تأمين التمويل اللازم للعجز، نؤكد على تجنب الاقتراض الخارجي، وعلى التوجه نحو الموارد الداخلية، واصدار سندات دين حكومي وتشجيع اقتنائها، والسعي الى توفير ادوات مالية وحوافز لزيادة معدلات الادخار وتقليص النزعة الاستهلاكية.
إن التدقيق في بنود الانفاق سيُظهر وجود امكانية لضغط المصاريف غير الضرورية. وقد كشفت الايام الماضية عن امثلة لانفاق ترفي في موازنة الرئاسات. ومن جانب آخر يلاحظ ان مشروع الموازنة هذا يخلو، مثل سابقيه، من اهداف قصيرة ومتوسطة، كما لا يتضمن التزامات رقمية يسعى إلى تحقيقها ويمكن بموجبها تقييم الأداء، باستثناء كميات النفط المصدر.
وأخيرا نتطلع إلى أن تفي الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم بالالتزامات التي نص عليها اتفاقهما الأخير، وأن تتمخض المفاوضات عن حل عادل للقضايا العالقة الأخرى، ينصف الاطراف جميعا.