حكومة وحدة وطنيّة .. حكومة برنامج سياسي / الخميس 8 ايار 2014

توجّه العراقيون يوم 30 نيسان المنصرم الى صناديق الاقتراع، للمشاركة في انتخاب مجلس النواب الجديد. فقد فرضت الانتخابات نفسها كاستحقاق دستوري، وأراد الشعب لها ان تكون محطة لحسم الكثير من الامور والملفات العالقة، ولإجراء التغيير المنشود، وضمان التداول السلمي للسلطة؛ يحدوه الامل في رؤية نهاية سريعة لمشاكل البلد، وفي التمتع بحياة افضل .
جرت الانتخابات في أجواء معقدة ومحتقنة، وفي ظل صراع قاسٍ بين المتنافسين وصل احيانا الى حدود التشهير والتسقيط. وجرت في بيئة سياسية وأمنية عكرة، تمادى فيها الارهاب، واستفحل الفساد، وتزايد نشاط المليشيات المنفلتة، وشاعت الفوضى.
ورغم الاجواء المكربة، وما صاحب العملية الانتخابية من ثغرات ونواقص وتجاوزات، توجه الناخبون الى صناديق الاقتراع، وبلغت نسبة المصوتين حسبما اعلنت المفوضية 62 في المئة، وهي نسبة عالية تعكس إرادة الناس وحماسها لرؤية الجديد، وللتغيير.
وكان التغيير هو العنوان الأبرز، وقد أجمعت عليه تقريبا القوى السياسية كافة، رغم اختلاف المنطلقات والأهداف، ولسان حالهم يقول إن ما عاشوه في السنوات الماضية لا يفترض ان يستمر، فهو غير مرضي عنه وينبغي إصلاحه وتغييره، منهجا وأسلوبا وأشخاصا. وذلك ما تتطلع الناس الى رؤيته بعد انجاز عمليات العد والفرز ، وإعلان النتائج النهائية المصدقة، وتشكيل مجلس النواب الجديد، واختيار السلطة التنفيذية. وهنا يتوجب تأكيد اهمية انجاز ذلك، وضرورة اكمال المفوضية العليا للانتخابات مراحل العملية الانتخابية المتبقية بمنتهى الدقة، وبما يؤمن احترام إرادة الناخبين، وبالنزاهة والشفافية المطلوبتين.
جرت الانتخابات في مقطع زمني حساس وصعب، طارحة العديد من القضايا التي تتوجب إزاحة الغموض عنها وإزالة اللبس، والتدقيق في جوهرها وإيضاح مكنونها؛ ففي العديد من الطروحات ذات الصلة بالحكومة الجديدة مثلا، وبصيغة الحكم وأسلوب ادارته، ثمة الكثير من عدم الوضوح والهلامية والضبابية، وهناك حتى في مدلولات العنوان الواحد تباينات كبيرة. وفي هذا الاطار نرى مَن يعلنون ويبشرون بالتوجه نحو اقامة حكومة أغلبية، او حكومة توافق، او شراكة او مشاركة. ولكن هل حسم هؤلاء أولاً موقفهم من أسّ البلية وأساس الازمة المستفحلة التي تطحن البلد، ونعني بذلك نهج المحاصصة الطائفية - الإثنية؟ ام ان جوهر هذه المحاصصة سيبقى متجسدا في كل ما يطرح من عناوين؟ ام ان العناوين والصياغات التي تطرح في هذا السياق هي مجرد محاولات التفاف على مطالب الشعب الملحة بالتغيير والإصلاح، وباعتماد مبدأ المواطنة، وبناء المؤسسات الدستورية الحقة، والكف عن التلاعب بالألفاظ؟ وهو ما جرى ويجري في سياق تشويه مفهوم التوافق والتوازن، وفي المنابزات المستعرة بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية، وبين الاخيرة والمحافظات، وفي العلاقة بين المركزية واللامركزية ورسم حدودهما، وغير ذلك الكثير.
فالأمر، في ما يخص الحكومة وكيفية ادارة شؤون البلد، يجب الا يكون جدلا فوقيا، ولا تنابز شعارات، وإنما يتوجب الانطلاق في تحديد صيغة الحكم من الواقع الموضوعي؛ من التجربة الفعلية التي أفرزتها وشهدتها السنوات الماضية منذ 2003.
فماذا نقرأ في شأن الحال القائم الذي نعيشه؟ هل ترانا تجاوزنا المرحلة الانتقالية والأوضاع الاستثنائية والمفاعيل غير الطبيعية، وانتقلنا الى ما هو طبيعي وسلس وسليم؟ أبداً ، فالوضع كارثي؛ حيث البلد ما زال في مناطق واسعة منه يعاني الارهاب وانعدام الامن والاستقرار، وما زال يعاني الخراب والفوضى والفساد، وتدهور الخدمات وارتفاع نسب البطالة والفقر. فيما لم تُبنَ بعد دولة المواطنة والمؤسسات والقانون، وتبقى التدخلات الأجنبية شاخصة.
هذا الواقع الموضوعي، وليس التصورات التي تنطلق من الرغبة في تصفية الحسابات، هو ما يُملي علينا منطقيا وعلميا صيغة وشكل ادارة الحكم القادمة. وفي كل دول العالم، خصوصا في البلدان المتحضرة والديمقراطية، يجري اللجوء في مثل الأوضاع التي يعيشها بلدنا، بل حتى في الاوضاع الأقل خطورة والأخف عواقبَ، الى تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، تراعى فيها الاستحقاقات الانتخابية وحجم الكتل البرلمانية (وليس الطائفية السياسية) وتتشكل تحالفات أو ائتلافات وجبهات تنتج عنها حكومة وحدة وطنية، تتولى ادارة شؤون البلد الى حين تجاوز الاوضاع الشاذة وغير الطبيعية. ومثل هذه الحكومة تكون مفتوحة لكل الكفاءات للمساهمة فيها، سواء كان لها تمثيل في البرلمان ام لا، وهي من جانب آخر لا تتناقض مع ضرورات التوافق واحترام آراء الشركاء وإشراكهم فعليا في صنع القرار السياسي وصياغته. فهي بالتالي تمثل فعلاً حكم الأغلبية، وتجسد المشاركة من خلال هذا المفهوم للحكم. ذلك ان حكم الأكثرية - في رأينا - لا يعني بأية حال هيمنة جهة او حزب او فرد ، وجعل الآخرين مجرد تابعين لا حول لهم ولا قوة، يجري التكرّم عليهم بمناصب تضمن لهم تمثيلا شكليا "مكوناتيا". كما ان حكم الأغلبية ليس منفذا لفرض إرادة فرد، او تمهيدا لإقامة استبداد، وهو يتنافى مع التهميش والإقصاء، ومع عدم احترام الرأي الآخر المعارض.
من ناحية اخرى لا يتنافى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع وجود معارضة محترمة، اذا عزف البعض عن المشاركة في الحكم. وفي المقابل لا تعني المعارضة بالضرورة عدم مساندة ما هو ايجابي وصائب في اجراءات الحكومة، او عدم انتقاد ورفض مظاهر الشطط والخطأ والممارسات السيئة، التي تعتقد بضررها على البلد وأهله.
ان المهم والمطلوب اليوم هو حكومة برنامج سياسي، حكومة تحالف سياسي، وليس حكومة محاصصة طائفية - اثنية تعيد انتاج الماضي القريب بتفاصيله وعناوينه المعروفة، التي لم يعد الشعب يطيق أزماتها ومراراتها.. وصار يتطلع الى تغييرها بما يرسخ الديمقراطية ومؤسساتها، ويضمن الامن والاستقرار والخدمات وفرص العمل، ويدحر الارهاب والفساد، ويفضي الى قيام دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.