حان الوقت لاعتماد سياسة اقتصادية بديلة / 20 نيسان/أبريل 2020

افضت السياسة الاقتصادية المتبعة منذ ٢٠٠٣ حتى الان الى تعميق المشاكل البنيوية للاقتصاد العراقي، وتشديد طابعه الريعي واعتماده على الموارد النفطية، وما يترتب على ذلك من وضعه تحت رحمة سوق النفط العالمية المتذبذبة .
ومن المؤسف ان تحذيرات المتخصصين والساسة الوطنيين من مخاطر ذلك، وتأكيدهم أهمية وضرورة تبني سياسة اقتصادية ومالية تنموية، والعمل على توظيف موارد تصدير النفط الخام في مجالات التنمية والاستثمار أساسا، لم تنل اهتماما وسمعا.
ومن الواضح اليوم ان انخفاض أسعار النفط عالميا وقلة الطلب عليه، ارتباطا بتفشي وباء كورونا، سيؤدي حتما الى تقلص كميات النفط العراقي المصدرة بالتزامن مع انخفاض سعره، فتكون الحصيلة انخفاضا كبيرأ في عائدات النفط التي هي المصدر الأساس، وبنسبة تزيد عن ٩٥ في المائة، لتمويل الموازنة العامة ونفقات الدولة. الامر الذي سيضع العراق أمام أزمة مالية واقتصادية شديدة، ذات انعكاسات كبيرة على حياة المواطنين وعلى الخدمات العامة، وقد تطال اذا استمر الحال أشهرا قادمة، حتى قدرة الدولة على تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية، فضلا عن تمويل عملية التصدي لكورونا.
في هذه الأجواء جاء ت قرارات اجتماع "أوبك بلص" التي التزم بها العراق، ما يفرض عليه تخفيضا اوليا للكميات التي يصدرها بما يزيد قليلا على مليون برميل يوميا، أي تخفيض ٢٣ في المائة من حصة العراق المقررة ضمن أوبك. وقد اثارت هذه القرارات واعلان العراق الالتزام بها الكثير من التساؤلات في شأن قدرة المفاوض العراقي على تحقيق نتائج افضل لبلدنا، مثلما فعل ممثلو المكسيك مثلا. ومن جانب آخر لو كانت للعراق علاقات جيدة ومؤثرة ومتوازنة مع دول الإقليم والعالم، لا سيما ذات الكلمة المسموعة في عالم النفط، لأمكن توقع مراعاة ظروفه الخاصة وعدم فرض هذا الحجم الكبير من التخفيض عليه.
وواقع الحال ان الحلول المقترحة من طرف اللجان البرلمانية والسلطة التنفيذية للخروج من هذا المأزق المالي تتسم جميعا بالمرارة. فالحديث يدور عن موازنة تقشفية، وعن ادخار اجباري واقتراض داخلي وخارجي، فيما الحكومة لم تسدد حتى الآن القرض السابق للبنك المركزي العراقي البالغ ٢٠ مليار دولار.
إن بلدنا يواجه اليوم نتائج فشل الحكومات المتتالية في انتهاج السياسات المناسبة للتحوط إزاء التقلبات في الأسعار وفي أسواق النفط العالمية، ولتوجيه العائدات النفطية نحو الأغراض التنموية وتطوير القطاعات الانتاجية غير النفطية. فعلى مدى سنوات ظلت أسعار النفط التخمينية في الموازنة العامة أدنى من الأسعار الفعلية، وبدلا عن تأسيس صناديق سيادية تودع فيها فوائض الفروقات، مثلما يفعل العديد من البلدان الاخرى المصدرة للنفط، جرى التصرف بالفوائض على نحو غير شفاف من قبل السلطات التنفيذية. وإلى جانب ذلك تضخم الانفاق التشغيلي على حساب الاستثماري في الموازنات الحكومية، حتى انتهينا إلى الحال الراهن المناقض لكل منطق اقتصادي، حيث يتم تخصيص كل العائد النفطي الناتج عن ثروة طبيعية ناضبة للاستهلاك، فيما يجري اللجوء الى الاقتراض لتأمين التخصيصات الاستثمارية المحدودة أصلا !
ان ما نشهد اليوم من أزمات متفاقمة، ينبغي مواجهته برؤية استراتيجية وليس بمنطق إدارة أزمة عابرة تتطلب حلولا آنية، لا سيما وأن الكثير منها من شأنه أن يزيد معاناة قطاعات شعبية واسعة، وارتهان الدولة للقروض الداخلية والخارجية. ويفترض هذا التوقف عن الركض وراء سراب سياسة السوق المفتوحة والليبرالية الجديدة، فأمامنا صورة ومشهد ما يجري هذه الأيام في معاقل دول الرأسمالية ذاتها، وما يلحق من اذى بالغ بغالبية شعوبها.
لقد حان وقت المراجعة الشاملة، وبات ملحاً أن يجري تبني سياسة تنويع مصادر الدخل الوطني، وتنمية قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات الإنتاجية والسياحية، وضبط موارد المنافذ الحدودية والكمارك، واعتماد الضريبة التصاعدية وإنشاء الصناديق السيادية. كذلك مراجعة موضوع الرواتب العالية والمخصصات والامتيازات وتخفيضها الى النصف بنحو دائم، وتشريع قانون موحد للرواتب عادل ومنصف، ووقف الهدر والبذخ على كافة المستويات، والتصدي الناجع للفساد واسترداد الأموال المنهوبة، ومراجعة عقود التراخيص بما يضمن مصالح العراق ويؤمّن تجنيبه تبعات التذبذب في أسعار النفط . كما يتوجب التدقيق في عمل نافذة بيع العملة في البنك المركزي، ووضع حد لحالات الفساد فيها ولتسرب الأموال إلى الخارج، والعمل بصورة مكثفة على وضع نهاية عاجلة لأزمة الكهرباء الدائمة، ولقضية استيراد المشتقات النفطية في الوقت الذي تتوفر فيه عندنا كل مستلزمات الصناعات البتروكيماوية، بما يمكن العراق من تحقيق الاكتفاء الذاتي في انتاجها.
ان هذا وغيره من الأمور الملحة يحتاج الى وضع خطط مرنة قابلة للتنفيذ، والحرص على توفير مستلزمات تحويلها الى التطبيق العملي.
وفي كل الأحوال نشدد على عدم إلقاء تبعات الازمة المالية والاقتصادية، على الفئات والشرائح الفقيرة والمعدمة وذوي الدخل المحدود والكادحين عموما، فيما الحاجة تتزايد الى تقديم الدعم والإسناد لهم، وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية يضمن للمواطنين الحاجات المعيشية الأساسية.